الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **
لما كتب أبو أحمد إلى صاحب الزنج يدعوه إلى الحق فلم يجبه، استهانة به، ركب من فوره في جيوش عظيمة قريب من خمسين ألف مقاتل، قاصداً إلى المختارة مدينة صاحب الزنج، فلما انتهى إليها وجدها في غاية الأحكام، وقد حوط عليها من آلات الحصار شيئاً كثيراً، وقد التف على صاحب الزنج نحو من ثلاثمائة ألف مقاتل بسيف ورمح ومقلاع، ومن يكثر سوادهم، فقدم الموفق ولده أبا العباس بين يديه، فتقدم حتى وقف تحت قصر الملك فحاصره محاصرة شديدة، وتعجب الزنج من إقدامه وجرأته، ثم تراكمت الزنج عليه من كل مكان فهزمهم، وأثبت بهبوذ أكبر أمراء صاحب الزنج بالسهام والحجارة، ثم خامر جماعة من أصحاب أمراء صاحب الزنج إلى الموفق فأكرمهم وأعطاهم خلعاً سنية، ثم رغب إلى ذلك جماعة كثيرون فصاروا إلى الموفق. ثم ركب أبو أحمد الموفق في يوم النصف من شعبان، ونادى في الناس كلهم بالأمان إلا صاحب الزنج، فتحول خلق كثير من جيش صاحب الزنج إلى الموفق، (ج/ص: 11/ 49) وابتنى الموفق مدينة تجاه مدينة صاحب الزنج سماها الموفقية، وأمر بحمل الأمتعة والتجارات إليها، فاجتمع بها من أنواع الأشياء وصنوفها ما لم يجتمع في بلد قبلها، وعظم شأنها وامتلأت من المعايش والأرزاق وصنوف التجارات والسكان والدواب وغيرهم، وإنما بناها ليستعين بها على قتال صاحب الزنج، ثم جرت بينهم حروب عظيمة، وما زالت الحرب ناشبة حتى انسلخت هذه السنة وهم محاصرون للخبيث صاحب الزنج، وقد تحول منهم خلق كثير فصاروا على صاحب الزنج بعد ما كانوا معه، وبلغ عدد من تحول قريباً من خمسين ألفاً من الأمراء الخواص والأجناد، والموفق وأصحابه في زيادة وقوة ونصر وظفر. وفيها: حج بالناس هارون بن محمد الهاشمي. وفيها توفي من الأعيان: إسماعيل بن سيبويه. وإسحاق بن إبراهيم بن شاذان، ويحيى بن نصر الخولاني، وعباس البرقفي، ومحمد بن حماد بن بكر بن حماد أبو بكر المقري، صاحب خلف بن هشام البزار ببغداد في ربيع الأول، ومحمد بن عزيز الإيلي، ويحيى بن محمد بن يحيى الذهلي حنكان، ويونس بن حبيب راوي مسند أبي داود الطيالسي عنه. في المحرم منها استأمن جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان - وكان من أكابر صاحب الزنج وثقاتهم في أنفسهم - الموفق فأمنه وفرح به وخلع عليه وأمره فركب في سمرته فوقف تجاه قصر الملك، فنادى في الناس وأعلمهم بكذب صاحب الزنج وفجوره، وأنه في غرور هو ومن ابتعه، فاستأمن بسبب ذلك بشر كثير منهم، وبرد قتال الزنج عند ذلك إلى ربيع الآخر. فعند ذلك أمر الموفق أصحابه بمحاصرة السور، وأمرهم إذا دخلوه أن لا يدخلوا البلد حتى يأمرهم، فنقبوا السور حتى انثلم ثم عجلوا الدخول فدخلوا فقاتلهم الزنج فهزمهم المسلمون، وتقدموا إلى وسط المدينة فجاءتهم الزنج من كل جانب وخرجت عليهم الكمائن من أماكن لا يهتدون لها، فقتلوا من المسلمين خلقاً كثيراً واستلبوهم وفر الباقون. فلامهم الموفق على مخالفته وعلى العجلة، وأجرى الأرزاق على ذرية من قتل منهم، فحسن ذلك عند الناس جداً. (ج/ص: 11/ 50) وظفر أبو العباس بن الموفق بجماعة من الأعراب كانوا يجلبون الطعام إلى الزنج فقتلهم، وظفر ببهبوذ بن عبد الله بن عبد الوهاب فقتله، وكان ذلك من أكبر الفتح عند المسلمين وأعظم الرزايا عند الزنج. وبعث عمرو بن الليث إلى أبي أحمد الموفق ثلاثمائة ألف دينار وخمسين مناً من مسك، وخمسين مناً من عنبر، ومائتي من عود، وفضة بقيمة ألف، وثياباً من وشي وغلماناً كثيرة جداً. وفيها: خرج ملك الروم المعروف بابن الصقلبية، فحاصر أهل ملطية فأعانهم أهل مرعش ففر الخبيث خاسئاً. وغزا الصائفة من ناحية الثغور عامل ابن طولون، فقتل من الروم سبعة عشر ألفاً. وحج بالناس فيها هارون المتقدم. وفيها: قتل أحمد بن عبد الله الخجستاني. وفيها توفي من الأعيان: أحمد بن سيار. وأحمد بن شيبان. وأحمد بن يونس الضبي. وعيسى ابن أحمد البلخي، ومحمد بن عبد الله بن عبدالحكم المصري الفقيه المالكي. وقد صحب الشافعي وروى عنه. فيها اجتهد الموفق بالله في تخريب مدينة صاحب الزنج فخرب منه شيئاً كثيراً، وتمكن الجيوش من العبور إلى البلد، ولكن جاءه في أثناء هذه الحالة سهم في صدره من يد رجل رومي يقال له: قرطاس، فكاد يقتله، فاضطرب الحال لذلك وهو يتجلد ويحض على القتال مع ذلك، ثم أقام ببلده الموفقية أياماً يتداوى فاضطربت الأحوال وخاف الناس من صحاب الزنج، وأشاروا على الموفق بالمسير إلى بغداد فلم يقبل فقويت علته ثم من الله عليه بالعافية في شعبان، ففرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً، فنهض مسرعاً إلى الحصار فوجد الخبيث قد رمم كثيراً مما كان الموفق قد خربه وهدمه. فأمر بتخريبه وما حوله وما قرب منه، ثم لازم الحصار فما زال حتى فتح المدينة الغربية وخرب قصور صاحب الزنج ودور أمرائه، وأخذ من أموالهم شيئاً كثيراً مما لا يحد ولا يوصف كثرة، وأسر من نساء الزنج واستنقذ من نساء المسلمين وصبيانهم خلقاً كثيراً فأمر بردهم إلى أهاليهم مكرمين. وقد تحول صاحب الزنج إلى الجانب الشرقي، وعمل الجسر والقناطر الحائلة بينه وبين وصول السمريات إليه، فأمر الموفق بتخريبها وقطع الجسور، واستمر الحصار باقي هذه السنة، وما برح حتى تسلم الجانب الشرقي أيضاً واستحوذ على حواصله وأمواله، وفر الخبيث هارباً غير آيب، وخرج منها هارباً وترك حلائله وأولاده وحواصله، فأخذها الموفق وشرح ذلك يطول جداً. وقد حرره مبسوطاً ابن جرير، ولخصه ابن الأثير، واختصره ابن كثير، والله أعلم وهو الموفق إلى الصواب، واليه المرجع إلى المآب. (ج/ص: 11/ 51) ولما رأى الخليفة المعتمد أن أخاه أبا أحمد قد استحوذ على أمور الخلافة، وصار هو الحاكم الآمر الناهي، واليه تجلب التقادم وتحمل الأموال والخراج، وهوالذي يولي ويعزل، كتب إلى أحمد بن طولون يشكو إليه ذلك، فكتب إليه ابن طولون أن يتحول إلى عنده إلى مصر ووعده النصر والقيام معه، فاستغنم غيبة أخيه الموفق وركب في جمادى الأولى ومعه جماعة من القواد، وقد أرصد له ابن طولون جيشاً بالرقة يتلقونه، فلما اجتاز الخليفة بإسحاق بن كنداج نائب الموصل وعامة الجزيرة اعتقله عنده عن المسير إلى ابن طولون، وفند أعيان الأمراء الذين معه، وعاتب الخليفة ولامه على هذا الصنع أشد اللوم، ثم ألزمه العود إلى سامرا ومن معه من الأمراء فرجعوا إليها في غاية الذل والإهانة. ولما بلغ الموفق ذلك شكر سعي إسحاق، وولاه جميع أعمال أحمد بن طولون إلى أقصى بلاد إفريقية، وكتب إلى أخيه أن يأمن ابن طولون في رد العامة، فلم يمكن المعتمد إلا إجابته إلى ذلك، وهو كاره، وكان ابن طولون قد قطع ذكر الموفق في الخطب وأسقط اسمه عن الطرازات. وفيها: في ذي القعدة وقعت فتنة بمكة بين أصحاب الموفق وأصحاب ابن طولون، فقتل من أصحاب ابن طولون مائتان وهرب بقيتهم، واستلبهم أصحاب الموفق شيئاً كثيراً. وفيها: قطع الأعراب على الحجيج الطريق، وأخذ منهم خمسة آلاف بعير بأحمالها. وفيها توفي: إبراهيم بن منقذ الكناني. وأحمد بن خلاد مولى المعتصم - وكان من دعاة المعتزلة أخذ الكلام عن جعفر بن معشر المعتزلي - وسليمان بن حفص المعتزلي، صاحب بشر المريسي، وأبي الهذيل العلاف، وعيسى بن الشيخ بن السليل الشيباني، نائب أرمينية وديار بكر. وأبو فروة يزيد بن محمد الرهاوي أحد الضعفاء. فيها كان مقتل صاحب الزنج قبحه الله: وذلك أن الموفق لما فرغ من شأن مدينة صاحب الزنج وهي المختارة، واحتاز ما كان بها من الأموال، وقتل من كان بها من الرجال، وسبى من وجد فيها من النساء والأطفال، وهرب صاحب الزنج عن حومة الحرب والجلاد، وسار إلى بعض البلاد طريداً شريداً بشر حال، عاد الموفق إلى مدينته الموفقية مؤيداً منصوراً، وقدم عليه لؤلؤاً غلام أحمد بن طولون منابذاً لسيده سميعاً مطيعاً للموفق، وكان وروده عليه في ثالث المحرم من هذه السنة، فأكرمه وعظمه وأعطاه وخلع عليه وأحسن إليه، وبعثه طليعة بين يديه لقتال صاحب الزنج، وركب الموفق في الجيوش الكثيفة الهائلة وراءه فقصدوا الخبيث وقد تحصن ببلدة أخرى، (ج/ص: 11/ 52) فلم يزل به محاصراً له حتى أخرجه منها ذليلاً، واستحوذ على ما كان بها من الأموال والمغانم، ثم بعث السرايا والجيوش وراء حاجب الزنج، فأسروا عامة من كان معه من خاصته وجماعته، منهم سليمان بن جامع، فاستبشر الناس بأسره وكبروا الله وحمدوه فرحاً بالنصر والفتح. وحمل الموفق بمن معه حملة واحدة على أصحاب الخبيث فاستحر فيهم القتل، وما انجلت الحرب حتى جاء البشير بقتل صاحب الزنج في المعركة، وأتي برأسه مع غلام لؤلؤة الطولوني، فلما تحقق الموفق أنه رأسه بعد شهادة الأمراء الذين كانوا معه من أصحابه بذلك، خر ساجدا لله، ثم أنكفأ راجعاً إلى الموفقية، ورأس الخبيث يحمل بين يديه، وسليمان معه أسير، فدخل البلد وهو كذلك، وكان يوماً مشهوداً وفرح المسلمون بذلك في المغارب والمشارق. ثم جيء بأنكلاني ولد صاحب الزنج، وأبان بن علي المهلبي، مسعر حربهم مأسورين ومعهما قريب من خمسة آلاف أسير، فتم السرور وهرب قرطاس الذي رمى الموفق بصدره بذلك السهم إلى رامهرمز، فأخذ وبعث به إلى الموفق فقتله أبو العباس أحمد بن الموفق. واستتاب من بقي من أصحاب صاحب الزنج، وأمنهم الموفق ونادى في الناس بالأمان، وأن يرجع كل من كان أخرج من دياره بسبب الزنج إلى أوطانهم وبلدانهم، ثم سار إلى بغداد وقدم ولده أبا العباس بين يديه ومعه رأس الخبيث يحمل ليراه الناس، فدخلها لثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة، وكان يوماً مشهوداً، وانتهت أيام صاحب الزنج المدعي الكذاب قبحه الله. وقد كان ظهوره في يوم الأربعاء لأربع بقين من رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان هلاكه يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين. وكانت دولته أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام، ولله الحمد والمنة. وقد قيل في انقضاء دولة الزنج وما كان من النصر عليهم أشعار كثيرة، من ذلك قول يحيى بن محمد الأسلمي: أقول وقد جاء البشير بوقعة * أعزت من الإسلام ما كان واهيا جزى الله خير الناس للناس بعد ما * أبيح حماهم خير ما كان جازيا تفرد إذ لم ينصر الله ناصر * بتجديد دين كان أصبح باليا وتشديد ملك قد وهى بعد عزه * وأخذ بثأرات تبير الأعاديا ورد عمارات أزيلت وأخربت * ليرجع فيء قد تخرم وافيا وترجع أمصار أبيحت وأحرقت * مراراً وقد أمست قواء عوافيا ويشفي صدور المسلمين بوقعة * تقر بها منا العيون البواكيا ويتلى كتاب الله في كل مسجد * ويُلقى دعاء الطالبيين خاسيا فأعرض عن أحبابه ونعيمه * وعن لذة الدنيا وأصبح غازيا (ج/ص: 11/ 53) وفي هذه السنة أقبلت الروم في مائة ألف مقاتل، فنزلوا قريباً من طرسوس، فخرج إليهم المسلمون فبيتوهم فقتلوا منهم في ليلة واحدة حتى الصباح نحواً من سبعين ألفاً، ولله الحمد. وقتل المقدم الذي عليهم وهو بطريق البطارقة، وجرح أكثر الباقين، وغنم المسلمون منهم غنيمة عظيمة، من ذلك سبع صلبان من ذهب وفضة، وصليبهم الأعظم وهو من ذهب صامت مكلل بالجواهر، وأربع كراسي من ذهب، ومائتي كرسي من فضة، وآنية كثيرة، وعشرة آلاف علم من ديباج، وغنموا حريراً كثيراً وأموالاً جزيلة، وخمسة عشر ألف دابة وسروجاً وسلاحاً وسيوفاً محلاة وغير ذلك، ولله الحمد. أحمد بن طولون. أبو العباس أمير الديار المصرية و باني الجامع بها المنسوب إلى طولون، وإنما بناه أحمد ابنه، وقد ملك دمشق والعواصم والثغور مدة طويلة، وقد كان أبوه طولون من الأتراك الذين أهداهم نوح بن أسد الساماني عامل بخارى إلى المأمون في سنة مائتين، ويقال: إلى الرشيد في سنة تسعين ومائة. ولد أحمد هذا في سنة أربع عشرة ومائتين، ومات طولون أبوه في سنة ثلاثين، وقيل: في سنة أربعين ومائتين. وحكى ابن خلكان: أنه لم يكن أباه وإنما تبناه والله أعلم. وحكى ابن عساكر: أنه من جارية تركية اسمها هاشم. ونشأ أحمد هذا في صيانة وعفاف ورياسة ودراسة للقرآن العظيم، مع حسن الصوت به، وكان يعيب على أولاد الترك ما يرتكبونه من المحرمات والمنكرات، وكانت أمه جارية اسمها هاشم. وحكى ابن عساكر عن بعض مشايخ مصر: أن طولون لم يكن أباه وإنما كان قد تبناه لديانته، وحسن صوته بالقرآن، وظهور نجابته وصيانته من صغره، وأن طولون اتفق له معه أن بعثه مرة في حاجة ليأتيه بها من دار الإمارة، فذهب فإذا حظية من حظايا طولون مع بعض الخدم وهما على فاحشة، فأخذ حاجته التي أمره بها وكر راجعاً إليه سريعاً، ولم يذكر له شيئاً مما رأى من الحظية والخادم، فتوهمت الحظية أن يكون أحمد قد أخبر طولون بما رأى، فجاءت إلى طولون فقالت: إن أحمد جاءني الآن إلى المكان الفلاني وراودني عن نفسي، وانصرفت إلى قصرها، فوقع في نفسه صدقها فاستدعى أحمد وكتب معه كتاباً وختمه إلى بعض الأمراء، ولم يواجه أحمد بشيء مما قالت الجارية، وكان في الكتاب أن ساعة وصول حامل هذا الكتاب إليك تضرب عنقه وابعث برأسه سريعاً إلي. فذهب بالكتاب من عند طولون وهو لا يدري ما فيه، فاجتاز بطريقه بتلك الحظية فاستدعته إليها فقال: إني مشغول بهذا الكتاب لأوصله إلى بعض الأمراء. قالت: هلم فلي إليه حاجة - وأرادت أن تحقق في ذهن الملك طولون ما قالت له عنه - فحبسته عندها ليكتب لها كتاباً، ثم استوهبت من أحمد الكتاب الذي أمره طولون أن يوصله إلى ذلك الأمير، فدفعه إليها فأرسلت به ذلك الخادم الذي وجده معها على الفاحشة، وظنت أن به جائزة تريد أن تخص بها الخادم المذكور فذهب بالكتاب إلى ذلك الأمير، فلما قرأه أمر بضرب عنق ذلك الخادم وأرسل برأسه إلى الملك طولون، فتعجب الملك من ذلك. وقال: أين أحمد؟ فطلب له فقال: ويحك أخبرني كيف صنعت منذ خرجت من عندي؟ فأخبره بما جرى من الأمر. ولما سمعت تلك الحظية بأن رأس الخادم قد أتي به إلى طولون أسقط في يديها، وتوهمت أن الملك قد تحقق الحال، فقامت إليه تعتذر وتستغفر مما وقع منها مع الخادم، واعترفت بالحق وبرأت أحمد مما نسبته إليه، فحظي عند الملك طولون وأوصى له بالملك من بعده. ثم ولي نيابة الديار المصرية للمعتز فدخلها يوم الأربعاء لسبع بقين من رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين، فأحسن إلى أهلها وأنفق فيهم من بيت المال ومن الصدقات، واستغل الديار المصرية في بعض السنين أربعة آلاف ألف دينار، وبنى بها الجامع، غرم عليه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، وفرغ منه في سنة سبع وخمسين، وقيل: في سنة ست وستين ومائتين، وكانت له مائدة في كل يوم يحضرها الخاص والعام، وكان يتصدق من خالص ماله في كل شهر بألف دينار. وقد قال له وكيله يوماً: إنه تأتيني المرأة وعليها الإزار والبدلة ولها الهيئة الحسنة تسألني فأعطيها؟ فقال: من مد يده إليك فأعطه. وكان من أحفظ الناس للقرآن، ومن أطيبهم به صوتاً. وقد حكى ابن خلكان عنه: أنه قتل صبراً نحواً من ثمانية عشر ألف نفس، فالله أعلم. وبنى المارستان غرم عليه ستين ألف دينار، وعلى الميدان مائة وخمسين ألفاً، وكانت له صدقات كثيرة جداً، وإحسان زائد، ثم ملك دمشق بعد أميرها ماخور في سنة أربع وستين ومائتين، فأحسن إلى أهلها أيضاً إحساناً بالغاً، واتفق أنه وقع بها حريق عند كنسية مريم فنهض بنفسه إليه ومعه أبو زرعة عبد الرحمن بن عمر، والحافظ الدمشقي، وكاتبه أبو عبد الله أحمد بن محمد الواسطي، فأمر كاتبه أن يخرج من ماله سبعين ألف دينار تصرف إلى أهل الدور والأموال التي أحرقت. فصرف إليهم جميع قيمة ما ذكره، وبقي أربعة عشر ألف دينار فاضلة عن ذلك، فأمر بها أن توزع عليهم على قدر حصصهم، ثم أمر بمال عظيم يفرق على فقراء دمشق وغوطتها، فأقل ما حصل للفقير دينار، رحمه الله. ثم خرج إلى أنطاكية فحاصر بها صاحبها سيما حتى قتله وأخذ البلد كما ذكرنا. توفي بمصر في أوائل ذي القعدة من هذه السنة من علة أصابته من أكل لبن الجواميس كان يحبه، فأصابه بسببه ذرب فكاواه الأطباء، وأمروه أن يحتمي منه فلم يقبل منهم، فكان يأكل منه خفية فمات رحمه الله. (ج/ص: 11/ 55) وقد ترك من الأموال والأثاث والدواب شيئاً كثيراً جداً، ومن ذلك عشرة آلاف ألف دينار، ومن الفضة شيئاً كثيراً، وكان له ثلاثة وثلاثون ولداً، منهم سبعة عشر ذكراً، فقام بالأمر من بعده ولده خمارويه كما سيأتي ما كان من أمره. وكان له من الغلمان سبعة آلاف مولى، ومن البغال والخيل والجمال نحو سبعين ألف دابة، وقيل أكثر من ذلك. قال ابن خلكان: وإنما تغلب على البلاد لاشتغال الموفق بن المتوكل بحرب صاحب الزنج، وقد كان الموفق نائب أخيه المعتمد. وفيها: توفي أحمد بن عبدالكريم بن سهل الكاتب، صاحب كتاب الخراج. قاله ابن خلكان. وأحمد بن عبد الله بن البرقي. وأسيد بن عاصم الجمال. وبكار بن قتيبة المصري في ذي الحجة من هذه السنة. والحسن بن زيد العلوي. صاحب طبرستان في رجب منها، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وستة أيام، وقام من بعده بالأمر أخوه محمد بن زيد. وكان الحسن بن زيد هذا كريماً جواداً، يعرف الفقه والعربية، قال له مرة شاعر من الشعراء في جملة قصيدة مدحه بها: الله فرد وابن زيد فرد. فقال له: اسكت سد الله فاك، ألا قلت: الله فرد وابن زيد عبد. ثم نزل عن سريره وخر لله ساجداً وألصق خده بالتراب، ولم يعط ذلك الشاعر شيئاً. وامتدحه بعضهم فقال في أول قصيدة: لاتقل بشرى ولكن بشريان * غرة الداعي ويوم المهرجان فقال له الحسن: لو ابتدأت بالمصراع الثاني كان أحسن، وأبعد لك أن تبتدئ شعرك بحرف لا. فقال له الشاعر: ليس في الدنيا أجل من قول لا إله إلا الله. فقال: أصبت وأمر له بجائزة سنية. والحسن بن علي بن عفان العامري. (ج/ص: 11/ 56) وداود بن علي. الأصبهاني ثم البغدادي الفقيه الظاهري، إمام أهل الظاهر، روى عن أبي ثور وإبراهيم بن خالد واسحاق بن راهويه وسليمان بن حرب و عبد الله بن سلمة القعنبي ومسدد بن سرهد، وغير واحد. روى عنه ابنه الفقيه أبو بكر بن داود، وزكريا بن يحيى الساجي. قال الخطيب: كان فقيهاً زاهداً وفي كتبه حديث كثير دال على غزارة علمه، كانت وفاته ببغداد في هذه السنة، وكان مولده في سنة مائتين. وذكر أبو إسحاق السيرامي في طبقاته: أن أصله من أصبهان وولد بالكوفة، ونشأ ببغداد وأنه انتهت إليه رياسة العلم بها، وكان يحضر مجلسه أربعمائة طيلسان أخضر، وكان من المتعصبين للشافعي، وصنف مناقبه. وقال غيره: كان حسن الصلاة كثير الخشوع فيها والتواضع. قال الأزدي: ترك حديثه، ولم يتابع الأزدي على ذلك، ولكن روى عن الإمام أحمد أنه تكلم فيه بسبب كلامه في القرآن، وأن لفظه به مخلوق كما نسب ذلك إلى الإمام البخاري رحمهما الله. قلت: وقد كان من الفقهاء المشهورين، ولكن حصر نفسه بنفيه للقياس الصحيح فضاق بذلك ذرعه في أماكن كثيرة من الفقه، فلزمه القول بأشياء قطعية صار إليها بسبب اتباعه الظاهر المجرد من غير تفهم لمعنى النص. وقد اختلف الفقهاء القياسيون بعده في الاعتداد بخلافه، هل ينعقد الإجماع بدونه مع خلافه أم لا؟ على أقوال ليس هذا موضع بسطها. وفيها: توفي الربيع بن سليمان المرادي صاحب الشافعي، وقد ترجمناه في طبقات الشافعية. والقاضي بكار بن قتيبة الحاكم بالديار المصرية من سنة ست وأربعين ومائتين، إلى أن توفي مسجوناً بحبس أحمد بن طولون لكونه لم يخلع الموفق في سنة سبعين، وكان عالماً عابداً زاهداً كثير التلاوة والمحاسبة لنفسه، وقد شغر منصب القضاء بعده بمصر ثلاث سنين. وابن قتيبة الدينوري. وهو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قاضيها، النحوي اللغوي صاحب المصنفات البديعة المفيدة المحتوية على علوم جمة نافعة، اشتغل ببغداد وسمع بها الحديث على إسحاق بن راهوية، وطبقته، وأخذ اللغة عن أبي حاتم السجستاني وذويه، وصنف وجمع وألف المؤلفات الكثيرة منها: كتاب المعارف، وأدب الكاتب الذي شرحه أبو محمد بن السيد البطليوسي، وكتاب مشكل القرآن والحديث، وغريب القرآن والحديث، وعيون الأخبار، وإصلاح الغلط، وكتاب الخيل، وكتاب الأنوار، وكتاب المسلسل والجوابات، وكتاب الميسر والقداح، وغير ذلك. كانت وفاته في هذه السنة، وقيل في التي بعدها. ومولده في سنة ثلاث عشرة ومائتين، ولم يجاوز الستين. وروى عنه ولده أحمد جميع مصنفاته. وقد ولي قضاء مصر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. وتوفي بها بعد سنة رحمهما الله. ومحمد بن إسحاق بن جعفر الصفار. ومحمد بن أسلم بن وارة. ومصعب بن أحمد أبو أحمد الصوفي كان من أفران الجنيد. (ج/ص: 11/ 57) وفيها: توفي ملك الروم ابن الصقلبية لعنه الله. وفيها: ابتدأ إسماعيل بن موسى ببناء مدينة لارد من بلاد الأندلس. فيها عزل الخليفة عمرو بن الليث عن ولاية خراسان وأمر بلعنه على المنابر، وفوض أمر خراسان إلى محمد بن طاهر، وبعث جيشاً إلى عمرو بن الليث فهزمه عمرو. وفيها كانت وقعة بين أبي العباس المعتضد بن الموفق أبي أحمد وبين خمارويه بن أحمد بن طولون، وذلك أن خماروية لما ملك بعد أبيه بلاد مصر والشام جاءه جيش من جهة الخليفة عليهم إسحاق بن كنداج نائب الجزيرة وابن أبي الساج، فقاتلوه بأرض ويترز فامتنع من تسليم الشام إليهم، فاستنجدوا بأبي العباس بن الموفق، فقدم عليهم فكسر خمارويه بن أحمد وتسلم دمشق واحتازها، ثم سار خلف خمارويه إلى بلاد الرملة فأدركه عند ماء عليه طواحين فاقتتلوا هنالك، وكانت تسمى وقعة الطواحين، فكانت النصرة أولاً لأبي العباس على خمارويه، فهزمه حتى هرب خمارويه لا يلوي على شيء فلم يرجع حتى دخل الديار المصرية، فأقبل أبو العباس وأصحابه على نهب معسكرهم فبينما هم كذلك إذ أقبل كمين لجيش خمارويه وهم مشغولون بالنهب، فوضعت المصريون فيهم السيوف فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وانهزم الجيش وهرب أبو العباس المعتضد فلم يرجع حتى وصل دمشق، فلم يفتح له أهلها الباب فانصرف حتى وصل إلى طرسوس، وبقي الجيشان المصري والعراقي يقتتلان وليس لواحد منهما أمير. ثم كان الظفر للمصريين لأنهم أقاموا أبا العشائر أخا خمارويه عليم أميراً، فغلبوا بسبب ذلك واستقرت أيديهم على دمشق وسائر الشام، وهذه الوقعة من أعجب الوقعات. وفيها: جرت حروب كثيرة بأرض الأندلس من بلاد المغرب. وفيها: دخل إلى المدينة النبوية محمد وعلي ابنا الحسين بن جعفر بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فقتلا خلقاً من أهلها وأخذا أموالاً جزيلة، وتعطلت الصلوات في المسجد النبوي أربع جمع لم يحضر الناس فيه جمعة ولا جماعة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وجرت بمكة فتنة أخرى واقتتل الناس على باب المسجد الحرام أيضاً. وحج بالناس هارون بن موسى المتقدم. وعبد الرحمن بن محمد بن منصور البصري. ومحمد بن حماد الظهراني. ومحمد بن سنان العوفي. ويوسف بن مسلم. وبوران زوجة المأمون. زوجة المأمون. ويقال: إن اسمها خديجة، وبوران لقب لها، والصحيح الأول. عقد عليها المأمون بفم الصلح سنة ست ومائتين، ولها عشر سنين، ونثر عليها أبوها يومئذ وعلى الناس بنادق المسك مكتوب في ورقة وسط كل بندقة اسم قرية أو ملك جارية أو غلام أو فرس، فمن وصل إليه من ذلك شيء ملكه، ونثر ذلك على عامة الناس، ونثر الدنانير ونوافج المسك وبيض العنبر. وأنفق على المأمون وعسكره مدة إقامته تلك الأيام الخمس ألف ألف درهم. فلما ترحل المأمون عنه أطلق له عشرة آلاف ألف درهم، وأقطعه فم الصلح. وبنى بها سنة عشر. فلما جلس المأمون فرشوا له حصراً من ذهب ونثروا على قدميه ألف حبة جوهر، وهناك تور من ذهب فيه شمعة من عنبر زنة أربعين مناً من عنبر. فقال: هذا سرف، ونظر إلى ذلك الحب على الحصر يضيء فقال: قاتل الله أبا نواس حيث يقول في صفة الخمر: كأن صغرى وكبرى من فقاقعها * حصباء در على أرض من الذهب ثم أمر بالدر فجمع فجعل في حجر العروس وقال: هذا نحلة مني لك، وسلي حاجتك. فقالت لها جدتها: سلي سيدك فقد استنطقك. فقالت: أسأل أمير المؤمنين أن يرضى عن إبراهيم بن المهدي، فرضي عنه. ثم أراد الاجتماع بها فاذ هي حائض، وكان ذلك في شهر رمضان، وتأخرت وفاتها إلى هذه السنة ولها ثمانون سنة. في جمادى الأول منها سار نائب قزوين وهو ارلزنكيس في أربعة آلاف مقاتل إلى محمد بن زيد العلوي صاحب طبرستان بعد أخيه الحسين بن زيد، (ج/ص: 11/ 59) وهو بالري في جيش عظيم من الديلم وغيرهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً فهزمه ارلزنكيس وغنم ما في معسكره، وقتل من أصحابه ستة آلاف، ودخل الري فأخذها وصادر أهلها في مائة ألف دينار، وفرق عماله في نواحي الري. وفيها: وقع بين أبي العباس بن الموفق وبين صاحب ثغر طرسوس وهو يازمان الخادم، فثار أهل طرسوس على أبي العباس فأخرجوه عنهم فرجع إلى بغداد. وفيها: دخل حمدان بن حمدون وهارون الشاري مدينة الموصل، وصلى بهم الشاري في جامعها الأعظم. وفيها: عاثت بنو شيبان في أرض الموصل فساداً. وفيها: تحركت بقية الزنج في أرض البصرة، ونادوا: يا انكلاي يا منصور. وانكلاي هو ابن صاحب الزنج، وسليمان بن جامع، وأبان بن علي المهبلي، وجماعة من وجوههم كانوا في جيش الموفق فبعث إليهم فقتلوا، وحملت رؤسهم إليه، وصلبت أبدانهم ببغداد، وسكنت شرورهم. وفيها: صلح أمر المدينة النبوية وتراجع الناس إليها. وفيها: جرت حروب كثيرة ببلاد الأندلس، وأخذت الروم من المسلمين بالأندلس بلدين عظيمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وفيها: قدم صاعد بن مخلد الكاتب من فارس إلى واسط، فأمر الموفق القواد أن يتلقوه فدخل في أبهة عظيمة، ولكن ظهر منه تيه وعجب شديد، فأمر الموفق عما قريب بالقبض عليه وعلى أهله وأمواله، واستكتب مكانه أبا الصقر إسماعيل بن بلبل. وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق المتقدم منذ دهر. وأحمد بن عبد الجبار بن محمد بن عطارد العطاردي التميمي، راوي السيرة عن يونس بن بكير عن ابن إسحاق بن يسار وغير ذلك. وأبو عتبة الحجازي. وسليمان بن سيف. وسليمان بن وهب الوزير في حبس الموفق. وشعبة بن بكار يروى عن أبي عاصم النبيل. ومحمد بن صالح بن عبد الرحمن الأنماطي، ويلقب بمكحلة، وهو من تلاميذ يحيى بن معين. ومحمد بن عبدالوهاب الفراء. ومحمد بن عبيد المنادي. ومحمد بن عوف الحمصي. وأبو معشر المنجم. واسمه جعفر بن محمد البلخي أستاذ عصره في صناعة التنجيم، وله فيه التصانيف المشهورة، كالمدخل والزيج والألوف وغيرها. (ج/ص: 11/60) وتكلم على ما يتعلق بالتيسير والأحكام. قال ابن خلكان: وله إصابات عجيبة، منها أن بعض الملوك تطلب رجلاً وأراد قتله، فذهب ذلك الرجل فاختفى وخاف من أبي معشر أن يدل عليه بصنعة التنجيم، فعمد إلى طست فملأه دماً ووضع أسفله هاوناً وجلس على ذلك الهاون، فاستدعى الملك أبا معشر وأمره أن يظهر هذا الرجل، فضرب رمله وحرره ثم قال: هذا عجيب جداً، هذا الرجل جالس على جبل من ذهب في وسط بحر من دم، وليس هذا في الدنيا. ثم أعاد الضرب فوجده كذلك، فتعجب الملك من ذلك ونادى في البلد في أمان ذلك الرجل المذكور، فلما مثل بين يدي الملك سأله أين اختفى؟ فأخبره بأمره فتعجب الناس من ذلك. والظاهر أن الذي نسب إلى جعفر بن محمد الصادق من علم الرجز، والطرف واختلاج الأعضاء إنما هو منسوب إلى جعفر بن أبي معشر هذا، وليس بالصادق وإنما يغلطون. والله أعلم. فيها وقع بين إسحاق بن كنداج نائب الموصل وبين صاحبه ابن أبي الساج نائب قنسرين وغيرها بعدما كانا متفقين، وكاتب ابن أبي الساج خمارويه صاحب مصر، وخطب له ببلاده وقدم خمارويه إلى الشام فاجتمع به ابن أبي الساج، ثم سار إلى إسحاق بن كنداج فتواقعا فانهزم كنداج وهرب إلى قلعة ماردين، فجاء فحاصره بها ثم ظهر أمر ابن أبي الساج واستحوذ على الموصل والجزيرة وغيرها، وخطب بها لخمارويه واستفحل أمره جداً. وفيها: قبض الموفق على لؤلؤ غلام ابن طولون وصادره بأربعمائة ألف دينار وسجنه، فكان يقول: ليس لي ذنب إلا كثرة مالي، ثم أخرج بعد ذلك من السجن وهو فقير ذليل، فعاد إلى مصر في أيام هارون بن خمارويه، ومعه غلام واحد فدخلها على برذون. وهذا جزاء من كفر نعمة سيده. وفيها: عدا أولاد ملك الروم على أبيهم فقتلوه، وملكوا أحد أولاده. صاحب الأندلس عن خمس وستين سنة. وكانت ولايته أربعاً وثلاثين سنة وأحد عشر شهراً، وكان أبيض مشرباً بحمرة ربعة أوقص يخضب بالحناء والكتم، وكان عاقلاً لبيباً يدرك الأشياء المشتبهة، وخلف ثلاثاً وثلاثين ذكراً، وقام بالأمر بعده ولده المنذر فأحسن إلى الناس وأحبوه. وفيها كانت وفاة: الذي كان أمير خراسان في حبس المعتمد، وهذا الرجل هو الذي أخرج البخاري محمد بن إسماعيل من بخارى وطرده عنها، (ج/ص: 11/ 61) فدعا عليه البخاري فلم يفلح بعدها، ولم يبق في الأمرة إلا أقل من شهر حتى احتيط عليه وعلى أمواله وأركب حماراً، ونودي عليه في بلده ثم سجن من ذلك الحين، فمكث في السجن حتى مات في هذه السنة، وهذا جزاء من تعرض لأهل الحديث والسنة. وممن توفي فيها أيضاً: إسحاق بن يسار، وحنبل بن إسحاق عم الإمام أحمد بن حنبل، وهو أحد الرواة المشهورين عنه، على أنه قد اتهم في بعض ما يرويه ويحكيه. وأبو أمية الطرسوسي. وأبو الفتح بن شخرف أحد مشايخ الصوفية، وذوي الأحوال والكرامات والكلمات النافعات. وقد وهم ابن الأثير في قوله في كامله: إن أبا داود صاحب السنن توفي في هذه السنة، وإنما توفي سنة خمس وسبعين كما سيأتي. وفيها توفي: صاحب السنن وهو أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة صاحب كتاب السنن المشهورة، وهي دالة على عمله وعلمه وتبحره واطلاعه واتباعه للسنة في الأصول والفروع، ويشتمل على اثنين وثلاثين كتاباً، وألف وخمسمائة باب، وعلى أربعة آلاف حديث كلها جياد سوى اليسيرة، وقد حكي عن أبي زرعة الرازي أنه انتقد منها بضعة عشر حديثاً. ربما يقال: إنها موضوعة أو منكرة جداً، ولابن ماجة تفسير حافل وتاريخ كامل من لدن الصحابة إلى عصره، وقال أبو يعلى الخليل بن عبد الله الخليلي القزويني: أبو عبد الله بن محمد بن يزيد بن ماجة، ويعرف يزيد بماجة مولى ربيعة، كان عالماً بهذا الشأن صاحب تصانيف، منها: التاريخ والسنن، ارتحل إلى العراقين ومصر والشام، ثم ذكر طرفاً من مشايخه، وقد ترجمناهم في كتابنا التكميل ولله الحمد والمنة. قال: وقد روى عنه الكبار القدماء: ابن سيبويه، ومحمد بن عيسى الصفار، وإسحاق بن محمد، وعلي بن إبراهيم بن سلمة القطان، وجدي أحمد بن إبراهيم، وسليمان بن يزيد. وقال غيره: كانت وفاة ابن ماجة يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء لثمان بقين من رمضان سنة ثلاث وسبعين ومائتين عن أربع وستين سنة، وصلى عليه أخوه أبو بكر، وتولى دفنه مع أخيه الآخر أبي عبد الله وابنه عبد الله بن محمد بن يزيد رحمه الله. فيها نشبت الحرب بين أبي أحمد الموفق وبين عمرو بن الليث بفارس، فقصده أبو أحمد فهرب منه عمرو من بلد إلى بلد، (ج/ص: 11/ 62) وتتبعه ولم يقع بينهما قتال ولا مواجهة، وقد تحيز إلى الموفق مقدم جيش عمرو بن الليث، وهو أبو طلحة شركب الجمال، ثم أراد العود فقبض عليه الموفق وأباح ماله لولده أبي العباس المعتضد، وذلك بالقرب من شيراز وفيها غزا يازمان الخادم نائب طرسوس بلاد الروم فأوغل فيها فقتل وغنم وسلم. وفيها: دخل صديق الفرغاني سامرا فنهب دور التجار بها، وكر راجعاً، وقد كان هذا الرجل ممن يحرس الطرقات فترك ذلك وأقبل يقطع الطرقات، وضعف الجند بسامرا عن مقاومته. وفيها توفي من الأعيان: إبراهيم بن أحمد بن يحيى أبو إسحاق، قال ابن الجوزي في المنتظم: كان حافظاً فاضلاً، روى عن حرملة وغيره، توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة إسحاق بن إبراهيم بن زياد أبو يعقوب المقرى توفي في ربيع الأول منها. أيوب بن سليمان بن داود الصفدي يروى عن آدم بن إياس، وعن ابن صاعد وابن السماك، وكان ثقة. توفي في رمضان منها. الحسن بن مكرم بن حسان بن علي البزار، يروي عن عفان وأبي النضر ويزيد بن هارون وغيرهم، وعنه المحاملي وابن مخلد والبخاري، وكان ثقة. توفي رمضان منها عن ثلاث وسبعين سنة. خلف بن محمد بن عيسى أبو الحسين الواسطي الملقب بكردوس، يروي عن يزيد بن هارون وغيره، وعنه المحاملي وابن مخلد. قال ابن أبي حاتم: صدوق، وقال الدارقطني: ثقة. توفي في ذي الحجة منها، وقد نيف عن الثمانين. عبد الله بن روح بن عبيد الله بن أبي محمد المدائني المعروف بعيد روس، يروى عن شبابة ويزيد بن هارون، وعنه المحاملي وابن السماك وأبو بكر الشافعي، وكان من الثقات. توفي في جمادى الآخرة منها. عبد الله بن أبي سعيد أبو محمد الوراق أصله من بلخ، وسكن بغداد، وروى الحديث عن شريح بن يونس وعفان وعلي بن الجعد وغيرهم، وعنه ابن أبي الدنيا والبغوي والمحاملي، وكان ثقة صاحب أخبار وآداب وملح، توفي بواسط في جمادى الآخرة منها عن سبع وسبعين سنة. محمد بن إسماعيل بن زياد أبو عبد الله، وقيل: أبو بكر الدولابي، سمع أبا النضر وأبا اليمان وأبا مسهر، وعنه أبو الحسين المنادي ومحمد بن مخلد وابن السماك، وكان ثقة. في المحرم منها وقع الخلاف بين ابن أبي الساج وبين خمارويه، فاقتتلا عند ثنية العقاب شرقي دمشق فقهر خمارويه لابن أبي الساج وانهزم، وكانت له حواصل بحمص فبعث خمارويه من سبقه إليها فأخذها، ومنع منه حمص فذهب إلى حلب فمنعه خمارويه فسار إلى الرقة فاتبعه، فذهب إلى الموصل ثم انهزم منها خوفاً من خمارويه، ووصل خمارويه إليها واتخذ بها سريراً طويل القوائم، فكان يجلس عليه في الفرات، فعند ذلك طمع فيه ابن كنداج فسار وراءه ليظفر بشيء فلم يقدر، وقد التقيا في بعض الأيام فصبر له ابن أبي الساج صبراً عظيماً، (ج/ص: 11/ 63) فسلم وانصرف إلى الموفق ببغداد فأكرمه وخلع عليه واستصحبه معه إلى الجبل، ورجع إسحاق بن كنداج إلى ديار بكر من الجزيرة. وفيها: في شوال منها سجن أبو أحمد الموفق ولده أبا العباس المعتضد في دار الإمارة، وكان سبب ذلك أنه أمره بالمسير إلى بعض الوجوه، فامتنع أن يسير إلا إلى الشام التي ولاه إياها عمه المعتضد، وأمر بسجنه فثارت الأمراء واختطبت بغداد فركب الموفق إلى بغداد وقال للناس: أتظنون أنكم على ولدي أشفق مني؟ فسكن الناس عند ذلك ثم أفرج عنه. وفيها: سار رافع إلى محمد بن زيد العلوي فأخذ منه مدينة جرجان، فهرب إلى استراباذ فحصره بها سنين فغلا بها السعر حتى بيع الملح بها وزن درهم بدرهمين، فهرب منها ليلاً إلى سارية، فأخذ منها رافع بلاداً كثيرة بعد ذلك في مدة متطاولة. وفي المحرم منها: أو في صفر كانت وفاة المنذر بن محمد بن عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس عن ست وأربعين سنة. وكانت ولايته سنة وأحد عشر يوماً، وكان أسمر طويلاً بوجهه أثر جدري، جواداً ممدحاً يحب الشعراء ويصلهم بمال كثير، ثم قام بالأمر من بعده أخوه محمد فامتلأت بلاد الأندلس في أيامه فتناً وشراً حتى هلك كما سيأتي. وهو الذي أغمض الإمام أحمد وكان فيمن غسله، وقد نقل عن أحمد مسائل كثيرة، وحصلت له رفعة عظيمة مع أحمد حين طلب إلى سامرا ووصل بخمسين ألفاً فلم يقبلها. أحمد بن محمد بن غالب بن خالد بن مرداس أبو عبد الله الباهلي البصري المعروف بغلام خليل، سكن بغداد، روى عن سليمان بن داود الشاذكوني، وشيبان بن فروخ، وقرة بن حبيب وغيرهم، وعنه ابن السماك وابن مخلد وغيرهما، وقد أنكر عليه أبو حاتم وغيره أحاديث رواها منكرة عن شيوخ مجهولين. قال أبو حاتم: ولم يكن ممن يفتعل الحديث، كان رجلاً صالحاً. وكذبه أبو داود وغير واحد. وروى ابن عدي عنه: أنه اعترف بوضع الحديث ليرقق به قلوب الناس، وكان عابداً زاهداً يقتات الباقلاء الصرف، وحين مات أغلقت أسواق بغداد وحضر الناس جنازته والصلاة عليه، ثم جعل في زورق وشيع إلى البصرة فدفن بها في رجب من هذه السنة. وأحمد بن ملاعب، روى عن يحيى بن معين وغيره، وكان ثقة ديناً عالماً فاضلاً، انتشر به كثير من الحديث. وأبو سعيد الحسن بن الحسين بن عبد الله بن البكري النحوي اللغوي، صاحب التصانيف. وإسحاق بن إبراهيم بن هانئ أبو يعقوب النيسابوري، كان من أخصاء أصحاب الإمام أحمد وعنده اختفى أحمد في زمن المحنة. (ج/ص: 11/ 64) و عبد الله بن يعقوب بن إسحاق التميمي العطار الموصلي. قال ابن الأثير: كان كثير الحديث معدلاً عند الحكام. ويحيى بن أبي طالب. صاحب السنن، اسمه سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن يحيى بن عمران أبو داود السجستاني، أحد أئمة الحديث الرحالين إلى الآفاق في طلبه، جمع وصنف وخرج وألف وسمع الكثير عن مشايخ البلدان في الشام ومصر والجزيرة والعراق وخراسان وغير ذلك، وله السنن المشهورة المتداولة بين العلماء، التي قال فيها أبو حامد الغزالي: يكفي المجتهد معرفتها من الأحاديث النبوية. حدث عنه جماعة منهم: ابنه أبو بكر عبد الله، وأبو عبدالرحمن النسائي، وأحمد بن سليمان النجار، وهو آخر من روى عنه في الدنيا. سكن أبو داود البصرة وقدم بغداد غير مرة، وحدث بكتاب السنن بها، ويقال: إنه صنفه بها وعرضه على الإمام أحمد فاستجاده واستسحنه، وقال الخطيب: حدثني أبو بكر محمد بن علي ابن إبراهيم القاري الدينوري من لفظه، قال: سمعت أبا الحسين محمد بن عبد الله بن الحسن القرصي قال: سمعت أبا بكر بن داسه يقول: سمعت أبا داود يقول: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته كتاب السنن، جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث، قوله عليه السلام: ((إنما الأعمال بالنيات)). الثاني قوله: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)). الثالث قوله: ((لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه)). الرابع قوله: ((الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات)). وحدثت عن عبد العزيز بن جعفر الحنبلي: أن أبا بكر الخلال قال: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني الإمام المقدم في زمانه، رجل لم يسبقه إلى معرفة تخريج العلوم وبصره بمواضعها أحد من أهل زمانه، رجل ورع مقدم قد سمع منه أحمد بن حنبل حديثاً واحداً كان أبو داود يذكره، وكان أبو بكر الأصبهاني وأبو بكر بن صدقة يرفعان قدره ويذكرانه بما لا يذكران أحدا في زمانه بمثله. قلت: الحديث الذي كتبه عنه وسمعه منه الإمام أحمد بن حنبل هو ما رواه أبو داود من حديث حماد بن سلمة عن أبي معشر الدارمي عن أبيه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن العتيرة فحسنها)).(ج/ص: 11/ 65) وقال إبراهيم الحربي وغيره: ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود الحديد. وقال غيره: كان أحد حفاظ الإسلام للحديث وعلله وسنده. وكان في أعلا درجة النسك والعفاف والصلاح والورع من فرسان الحديث. وقال غيره: كان ابن مسعود يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه ودله وسمته، وكان علقمة يشبهه، وكان إبراهيم يشبه علقمة، وكان منصور يشبه إبراهيم، وكان سفيان يشبه منصور، وكان وكيع يشبه سفيان، وكان أحمد يشبه وكيعاً، وكان أبو داود يشبه أحمد بن حنبل. وقال محمد بن بكر بن عبد الرزاق: كان لأبي داود كم واسع وكم ضيق فقيل له: ما هذا يرحمك الله؟ فقال: هذا الواسع للكتب والآخر لا يحتاج إليه. وقد كان مولد أبي داود في سنة ثنتين ومائتين، وتوفي بالبصرة يوم الجمعة لأربع عشرة بقيت من شوال سنة خمس وسبعين ومائتين عن ثلاث وسبعين سنة، ودفن إلى جانب قبر سفيان الثوري. وقد ذكرنا ترجمته في التكميل وذكرنا ثناء الأئمة عليه. وفيها: توفي محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن العنبس الضميري الشاعر، كان ديناً كثير الملح، وكان هجاء، ومن جيد شعره قوله: كم عليل عاش من بعد يأس * بعد موت الطبيب والعواد قد تصاد القطا فتنجو سريعاً * ويحل البلاء بالصياد في المحرم منها أعيد عمرو بن الليث إلى شرطة بغداد وكتب اسمه على الفرش والمقاعد والستور، ثم أسقط اسمه عن ذلك وعزل وولي عبيد الله بن طاهر. وفيها: ولى الموفق لابن أبي الساج نيابة أذربيجان. وفيها: قصد هارون الشاري الخارجي مدينة الموصل فنزل شرقيها فحاصرها، فخرج إليه أهلها فاستأمنوه فأمنهم ورجع عنهم. وفيها: حج بالناس هارون بن محمد العباسي أمير الحرمين والطائف، ولما رجع حجاج اليمن نزلوا في بعض الأماكن، فجاءهم سيل لم يشعروا به ففرقهم كلهم لم يفلت منهم أحد فإنا لله وإنا إليه راجعون. وذكر ابن الجوزي في منتظمه وابن الأثير في كامله: أن في هذه السنة انفرج تل بنهر الصلة في أرض البصرة يعرف بتل بني شقيق عن سبعة أقبر في مثل الحوض، وفيها سبعة أبدان صحيحة أجسادهم وأكفانهم يفوح منهم ريح المسك، أحدهم شاب وله جمة وعلى شفته بلل كأنه قد شرب ماء الآن، وكأن عينيه مكحلتان، وبه ضربة في خاصرته، وأراد أحدهم أن يأخذ من شعره شيئاً فإذا هو قوي الشعر كأنه حي فتركوا على حالهم. (ج/ص: 11/ 66) وممن توفي فيها من الأعيان: أحمد بن حازم بن أبي عزرة الحافظ، صاحب المسند المشهور له حديث كثير وروايته عالية. بقي بن مخلد. أبو عبدالرحمن الأندلسي الحافظ الكبير، له المسند المبوب على الفقه، روى فيه عن ألف وستمائة صحابي، وقد فضله ابن حزم على مسند الإمام أحمد بن حنبل، وعندي في ذلك نظر، والظاهر أن مسند أحمد أجود منه وأجمع. وقد رحل بقي إلى العراق فسمع من الإمام أحمد وغيره من أئمة الحديث بالعراق وغيرها يزيدون على المائتين بأربعة وثلاثين شيخاً، وله تصانيف أخر، وكان مع ذلك رجلاً صالحاً عابداً زاهداً مجاب الدعوة، جاءته امرأة فقالت: إن ابني قد أسرته الإفرنج، وإني لا أنام الليل من شوقي إليه، ولي دويرة أريد أن أبيعها لأستفكه، فإن رأيت أن تشير على أحد يأخذها لأسعى في فكاكه بثمنها، فليس يقر لي ليل ولا نهار، ولا أجد نوماً ولا صبراً ولا قراراً ولا راحة. فقال: نعم انصرفي حتى أنظر في ذلك إن شاء الله. وأطرق الشيخ وحرك شفتيه يدعو الله عز وجل لولدها بالخلاص من أيدي الفرنج، فذهبت المرأة فما كان إلا قليلاً حتى جاءت الشيخ وابنها معها فقالت: اسمع خبره يرحمك الله. فقال: كيف كان أمرك؟ فقال: إني كنت فيمن نخدم الملك ونحن في القيود، فبينما أنا ذات يوم أمشي إذ سقط القيد من رجلي، فأقبل علي الموكل بي فشتمني وقال: لم أزلت القيد من رجليك؟ فقلت: لا والله ما شعرت به ولكنه سقط ولم أشعر به، فجاؤوا بالحداد فأعادوه وأجادوه وشدوا مسماره وأبدوه، ثم قمت فسقط أيضاً فأعادوه وأكدوه فسقط أيضاً، فسألوا رهبانهم عن سبب ذلك فقالوا: له والدة؟ فقلت: نعم، فقالوا: إنها قد دعت لك وقد استجيب دعاؤها أطلقوه، فأطلقوني وخفروني حتى وصلت إلى بلاد الإسلام. فسأله بقي بن مخلد عن الساعة التي سقط فيها القيد من رجله فإذا هي الساعة التي دعا فيها الله له ففرج عنه. صاعد بن مخلد الكاتب كان كثير الصدقة والصلاة، وقد أثنى عليه أبو الفرج بن الجوزي، وتكلم فيه ابن الأثير في كامله، وذكر أنه كان فيه تيه وحمق، وقد يمكن الجمع بين القولين والصفتين. ابن قتيبة وهو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ثم البغدادي، أحد العلماء والأدباء والحفاظ الأذكياء، وقد تقدمت ترجمته، وكان ثقة نبيلاً، وكان أهل العلم يتهمون من لم يكن في منزله شيء من تصانيفه، (ج/ص: 11/ 67) وكان سبب وفاته: أنه أكل لقمة من هريسة فإذا هي حارة فصاح صيحة شديدة ثم أغمي عليه إلى وقت الظهر، ثم أفاق ثم لم يزل يشهد أن لا إله إلا الله إلى أن مات وقت السحر أول ليلة من رجب من هذه السنة، وقيل: إنه توفي في سنة سبعين ومائتين، والصحيح في هذه السنة. عبدالملك بن محمد بن عبد الله أبو قلابة الرقاشي، أحد الحفاظ، كان يكنى بأبي محمد، ولكن غلب عليه لقب أبو قلابة، سمع يزيد بن هارون وروح بن عبادة وأبا داود الطيالسي وغيرهم، وعنه ابن صاعد والمحاملي والبخاري وأبو بكر الشافعي وغيرهم، وكان صدوقاً عابداً يصلي في كل يوم أربعمائة ركعة، وروى من حفظه ستين ألف حديث غلط في بعضها على سبيل العمد، كانت وفاته في شوال من هذه السنة عن ست وثمانين سنة. ومحمد بن أحمد بن أبي العوام، ومحمد بن إسماعيل الصايغ. ويزيد بن عبدالصمد. وأبو الرداد المؤذن، وهو عبد الله بن عبد السلام بن عبيد الرداد المؤذن، صاحب المقياس بمصر، الذي هو مسلم إليه وإلى ذريته إلى يومنا هذا. قاله ابن خلكان والله أعلم. فيها خطب يازمان نائب طرسوس لخمارويه، وذلك أنه هاداه بذهب كثير وتحف هائلة. وفيها: قدم جماعة من أصحاب خمارويه إلى بغداد. وفيها: ولي المطالم ببغداد يوسف بن يعقوب، ونودي في الناس: من كانت له مظلمة ولو عند الأمير الناصر لدين الله الموفق، أو عند أحد من الناس فليحضر. وسار في الناس سيرة حسنة، وأظهر صرامة لم ير مثلها. وحج بالناس الأمير المتقدم ذكره قبل ذلك. إبراهيم بن صرا إسحاق بن أبي العينين. وأبو إسحاق الكوفي قاضي بغداد بعد ابن سماعة، سمع معلى بن عبيد وغيره، وحدث عنه ابن أبي الدنيا وغيره، توفي عن ثلاث وتسعين سنة، وكان ثقة فاضلاً ديناً صالحاً. أحمد بن عيسى. أبو سعيد الخراز أحد مشاهير الصوفية بالعبادة والمجاهدة والورع والمراقبة، وله تصانيف في ذلك وله كرامات وأحوال وصبر على الشدائد، (ج/ص: 11/ 68) وروى عن إبراهيم بن بشار صاحب إبراهيم بن أدهم وغيره، وعنه على بن محمد المصري وجماعة. ومن جيد كلامه: إذا بكت أعين الخائفين فقد كاتبوا الله بدموعهم. وقال: العافية تستر البر والفاجر، فإذا نزل البلاء تبين عنده الرجال. وقال: كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل. وقال: الاشتغال بوقت ماض تضييع وقت حاضر. وقال: ذنوب المقربين حسنات الأبرار. وقال: الرضا قبل القضاء تفويض، والرضا مع القضاء تسليم. وقد روى البيهقي بسنده إليه: أنه سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((جبلت القلوب على حب من أحسن إليها)). فقال: يا عجباً لمن لم ير محسناً غير الله كيف لا يميل إليه بكليته؟ قلت: وهذا الحديث ليس بصحيح، ولكن كلامه عليه من أحسن ما يكون. وقال ابنه سعيد: طلبت من أبي دانق فضة فقال: يا بني اصبر فلو أحب أبوك أن يركب الملوك إلى بابه ما تأبوا عليه. وروى ابن عساكر عنه قال: أصابني مرة جوع شديد فهممت أن أسأل الله طعاماً فقلت: هذا ينافي التوكل فهممت أن أسأله صبراً فهتف بي هاتف يقول: ويزعم أنه منا قريب * وأنا لا نضيع من أتانا ويسألنا القرى جهداً وصبراً * كأنا لا نراه ولا يرانا قال: فقمت ومشيت فراسخ بلا زاد. وقال: المحب يتعلل إلى محبوبه بكل شيء، ولا يتسلى عنه بشيء يتبع آثاره ولا يدع استخباره، ثم أنشد: أسائلكم عنها فهل من مخبر * فمالي بنعمى بعد مكة لي علم فلو كنت أدري أين خيم أهلها * وأي بلاد الله إذ ظعنوا أموا إذاً لسلكنا مسلك الريح خلفها * ولو أصبحت نعمى ومن دونها النجم وكانت وفاته في هذه السنة، وقيل: في سنة سبع وأربعين، وقيل: في سنة ست وثمانين والأول أصح. وفيها: توفي عيسى بن عبد الله بن سنان بن ذكويه بن موسى الطيالسي الحافظ، تلقب رعاب، سمع عفان أبا نعيم، وعنه أبو بكر الشافعي وغيره، ووثقه الدارقطني. كانت وفاته في شوال منها عن أربع وثمانين سنة. وفيها توفي: أبو حاتم الرازي. محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران أبو حاتم الحنظلي الرازي، أحد أئمة الحفاظ الأثبات العارفين بعلل الحديث والجرح والتعديل، وهو قرين أبي زرعة رحمهما الله، سمع الكثير وطاف الأقطار والأمصار، وروى عن خلق من الكبار، وعنه خلق منهم الربيع بن سليمان، ويونس بن عبد الأعلى وهما أكبر منه. وقدم بغداد وحدث بها، وروى عنه من أهلها إبراهيم الحربي وابن أبي الدنيا والمحاملي وغيرهم. قال لابنه عبد الرحمن: يا بني مشيت على قدمي في طلب الحديث أكثر من ألف فرسخ، (ج/ص: 11/ 69) وذكر أنه لم يكن له شيء ينفق عليه في بعض الأحيان، وأنه مكث ثلاثاً لا يأكل شيئاً حتى استقرض من بعض أصحابه نصف دينار، وقد أثنى عليه غير واحد من العلماء والفقهاء، وكان يتحدى من حضر عنده من الحفاظ وغيرهم، ويقول: من أغرب علي بحديث واحد صحيح فله علي درهم أتصدق به. قال: ومرادي أسمع ما ليس عندي، فلم يأت أحد بشيء من ذلك، وكان في جملة من حضر ذلك أبو زرعة الرازي. كانت وفاة ابن أبي حاتم في شعبان من هذه السنة. محمد بن الحسن بن موسى بن الحسن أبو جعفر الكوفي الخراز المعروف بالجندي، له مسند كبير، روى عن عبيد الله بن موسى والقعنبي وأبي نعيم وغيرهم، وعنه ابن صاعد والمحاملي وابن السماك، كان ثقة صدوقاً. محمد بن سعدان أبو جعفر الرازي، سمع من أكثر من خمسمائة شيخ، ولكن لم يحدث إلا باليسير، توفي في شعبان منها. قال ابن الجوزي: وهم محمد بن سعدان البزار عن القعنبي وهو غير مشهور. ومحمد بن سعدان النحوي مشهور. توفي في سنة إحدى ومائتين. قال ابن الأثير في كامله: وفيها توفي يعقوب بن سفيان بن حران الإمام الفسوي، وكان يتشيع. ويعقوب بن يوسف بن معقل الأموي مولاهم، والد أبي العباس أحمد بن الأصم. وفيها: ماتت عريب المغنية المأمونية، قيل: إنها ابنة جعفر بن يحيى البرمكي. فأما: يعقوب بن سفيان بن حران. فهو أبو يوسف بن أبي معاوية الفارسي الفسوي، سمع الحديث الكثير، وروى عن أكثر من ألف شيخ من الثقات، منهم هشام بن عمار، ودحيم، وأبو المجاهر، وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقيان، وسعيد بن منصور، وأبو عاصم، ومكي بن إبراهيم، وسليمان بن حرب، ومحمد بن كثير وعبيد الله بن موسى والقعنبي. روى عنه النسائي في سننه وأبو بكر بن أبي داود والحسن بن سفيان وابن خراش وابن خزيمة وأبو عوانة الإسفراييني وغيرهم، وصنف كتاب التاريخ والمعرفة وغيره من الكتب المفيدة، وقد رحل في طلب الحديث إلى البلدان النائية، وتغرب عن وطنه نحو ثلاثين سنة. وروى ابن عساكر عنه قال: كنت أكتب في الليل على ضوء السراج في زمن الرحلة، فبينا أنا ذات ليلة إذ وقع شيء على بصري فلم أبصر معه السراج، فجعلت أبكي على ما فاتني من ذهاب بصري، وما يفوتني بسبب ذلك من كتابة الحديث، وما أنا فيه من الغربة، ثم غلبتني عيني فنمت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لك؟ فشكوت إليه ما أنا فيه من الغربة، وما فاتني من كتابة السنة. فقال: ((أدن مني، فدنوت منه فجعل يده على عيني وجعل كأنه يقرأ شيئاً من القرآن)). ثم استيقظت فأبصرت وجلست أسبح الله. وقد أثنى عليه أبو زرعة الدمشقي والحاكم أبو عبد الله النيسابوري، وقال: هو إمام أهل الحديث بفارس، وقدم نيسابور وسمع منه مشايخنا، وقدنسبه بعضهم إلى التشيع. وذكر ابن عساكر: أن يعقوب بن الليث صاحب فارس بلغه عنه أنه يتكلم في عثمان بن عفان فأمر بإحضاره فقال له وزيره: أيها الأمير إنه لا يتكلم في شيخنا عثمان بن عفان السجزي، إنما يتكلم في عثمان بن عفان الصحابي، فقال: دعوه ما لي وللصحابي، إني إنما حسبته يتكلم في شيخنا عثمان بن عفان السجزي. (ج/ص: 11/ 70) قلت: وما أظن هذا صحيحاً عن يعقوب بن سفيان فإنه إمام محدث كبير القدر، وقد كانت وفاته قبل أبي حاتم بشهر في رجب منها بالبصرة رحمه الله. وقد رآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل بك ربك؟ فقال: غفر لي وأمرني أن أملي الحديث في السماء كما كنت أمليه في الأرض، فجلست للإملاء في السماء الرابعة، وجلس حولي جماعة من الملائكة، منهم جبريل يكتبون ما أمليه من الحديث بأقلام الذهب. عريب المأمونية. فقد ترجمها ابن عساكر في تاريخه، وحكى عن بعضهم أنها ابنة جعفر البرمكي، سرقت وهي صغيرة عند ذهاب دولة البرامكة، وبيعت فاشتراها المأمون بن الرشيد، ثم روي عن حماد بن إسحاق عن أبيه أنه قال: ما رأيت قط امرأة أحسن وجهاً منها، ولا أكثر أدباً ولا أحسن غناء وضرباً وشعراً ولعباً بالشطرنج والنرد منها، وما تشاء أن تجد خصلة ظريفة بارعة في امرأة إلا وجدتها فيها. وقد كانت شاعرة مطيقة بليغة فصيحة، وكان المأمون يتعشقها ثم أحبها بعده المعتصم، وكانت هي تعشق رجلاً يقال له: محمد بن حماد، وربما أدخلته إليها في دار الخلافة قبحها الله على ما ذكره ابن عساكر عنها، ثم عشقت صالحاً المنذري وتزوجته سراً، وكانت تقول فيه الشعر، وربما ذكرته في شعرها بين يدي المتوكل وهو لا يشعر فيمن هو، فتضحك جواريه من ذلك فيقول: يا سحاقات هذا خير من عملكن. وقد أورد ابن عساكر شيئاً كثيراً من شعرها، فمن ذلك قولها لما دخلت على المتوكل تعوده من حمى أصابته فقالت: أتوني فقالوا بالخليفة علة * فقلت ونار الشوق توقد في صدري ألا ليت بي حمى الخليفة جعفر * فكانت بي الحمى وكان له أجري كفى بي حزن أن قيل حم فلم أمت * من الحزن إني بعد هذا لذو صبري جعلت فدا للخليفة جعفر * وذاك قليل للخليفة من شكري ولما عوفي دخلت عليه فغنته من قيلها: شكراً لأنعم من عافاك من سقم * دمت المعافا من الآلام والسقم عادت ببرئك للأيام بهجتها * واهتز نبت رياض الجود والكرم ما قام للدين بعد اليوم من ملك * أعف منك ولا أرعى إلى الذمم فعمر الله فينا جعفراً ونفى * بنور وجنته عنا دجى الظلم ولها في عافيته أيضاً: حمدنا الذي عافى الخليفة جعفراً * على رغم أشياخ الضلالة والكفر (ج/ص: 11/ 71) وما كان إلا مثل بدر أصابه * كسوف قليل ثم أجلي عن البدر سلامته للدين عز وقوة * وعلته للدين قاصمة الظهر مرضت فأمرضت البرية كلها * وأظلمت الأمصار من شدة الذعر فلما استبان الناس منك إفاقة * أفاقوا وكانوا كالنيان على الجمر سلامة دنيانا سلامة جعفر * فدام معافاً سالماً آخر الدهر إمام أعم الناس بالفضل والندا * قريباً من التقوى بعيداً من الوزر ولها أشعار كثيرة رائعة، ومولدها في سنة إحدى وثمانين ومائة، وماتت في سنة سبع وسبعين ومائتين بسر من رأى، ولها ست وتسعون سنة.
|